قال الدكتور سلامة داوُد، رئيس جامعة الأزهر، إننا نحتفل اليوم بذكرى مرور 1083 عامًا لإقامةِ أولِ صلاةٍ في الجامع الأزهر في السابعِ من شهر رمضانَ في عام 361 من الهجرة، وهو احتفال بصرح العلم الشامخ وركنه الركين وحصنه الحصين، احتفال بهذه المناسبة في الجامع الأزهر، وهو بيت من بيوت الله جل جلاله، نور على نور، نور الوضوء على نور الذكر على نور تلاوة القرآن الكريم ونور القيام والركوع والسجود، ومع جلال هذا النور الكثيف فإن الجامع الأزهر ازداد نورا بالعلم الذي تسمع له في أروقته وجنباته دويا كدوي النحل.
وأضاف رئيس جامعة الأزهر باليوم السنوي للاحتفال بذكرى تأسيس الجامع الأزهر، أن الأزهر الشريف شمس أشرقت في سماء مصر واستضاء بها العالم كلُّه، حتى قال أحد الرحالة عن ليالي رمضان فيه: “ليلة بذلك المسجد كليلة القدر، لأنه معمور بالذكر والتلاوة والتعليم آناءَ الليل وأطرافَ النهار، لا تنقطع منه العبادة ليلا ولا نهارا، صيفا ولا شتاء، فهو عديم النظير في مساجد الدنيا بأجمعها، حاشا المساجدِ الثلاثة لما لها عند الله من أعظم المزايا وأرفعها”، وقال ابن خلدون الذي أكرمه الله تعالى بالتدريس في الجامع الأزهر: “إن العلم والتعليم إنما هو بالقاهرة من بلاد مصر، لما أن عمرانها مستبحر، وحضارتَها مستحكِمة منذ آلاف السنين؛ فاستحكمت بها الصنائع وتفننت، ومن جملتها تعلمُ العلم، وأن معاهدها العلمية تدفقت بها سوق العلوم وذخرت بحارها”.
وتابع: “الحمد لله الذي جعل الأزهر الشريف كعبة للعلم، تهوي إليه الأفئدة من كل فج عميق، الحمد لله الذي مَنَّ علينا بشرف الخدمة فيه، والعيش في رحابه، والارتواء من نبعه العذب، اللهم كما أكرمتنا بشرف الخدمة فيه فأعنا وتقبل منا وأدم علينا وعلى العالم أجمع نعمةَ الأزهر الشريف، حصنِ الدين واللغة، ومنارةِ التوسط والاعتدال.
واستكمل حديثه: قف يا زمان وحدِّث، ولو نطقت جدرانُه لأسمعتك أصوات العلم والعلماء، لأسمعتك صوت العز بن عبد السلام سلطان العلماء وبائع الأمراء الذي كان مجلس فقهه يوصف بأنه أبهى مجلس فقهٍ في الدنيا، ولأسمعتك جدرانُه لو نطقت صوت: ابن خَلِّكان صاحب وفيات الأعيان والشهاب القرافي وهو أحد العقول الضخمة في الإسلام، وصوت ابن دقيق العيد الذي قل أن ترى العيونُ مثلَه، وكان السلطان المملوكي ينزل له عن سريره ويقبل يدَه، وأثنى عليه السبكي فقال: “لم ندرك أحدا من مشايخنا يختلف في أن ابن دقيق العيد هو العالمُ المبعوثُ على رأس السبعمائة المشار إليه في الحديث أستاذ زمانه علما ودينا”، ولأسمعتك جدرانُه صوت العلامة تقي الدين السبكي الكبير وابنه تاج الدين عبد الوهاب السبكي صاحب طبقات الشافعية الكبرى وابنه بهاء الدين السبكي صاحب “عروس الأفراح”، ولأسمعتك جدرانُه صوت خليل المالكي صاحب المختصر المشهور “مختصر خليل” الذي قامت عليه شروح كتب المذهب.
واستطرد بأن جدران الجامع الأزهر لو كانت تتكلم “لأسمعتك جدرانُه صوت بان خلدون التونسي وتقي الدين الفاسي المغربي والزواوي المالكي والزيلعي الحبشي وزين الدين العراقي وابن هشام النحوي الذي قال فيه ابن خلدون: “مازلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه قد ظهر بمصر عالم يقال له ابن هشام، هو أنحى من سيبويه”، وصوت ابن عقيل وهو يشرح الألفية وابن حجر العسقلاني وبدر الدين العيني وهما يشرحان صحيح البخاري، وكان السلطان برسباي المملوكي يقول: “لولا القاضي العيني ما حسن إسلامنا، ولا عرفنا كيف نسير في المملكة”، ولأسمعتك جدرانُه المقريزي في خططه، وصوت الحافظ السخاوي والحافظ جلال الدين السيوطي الذي ألف أكثر من خمسمائة مؤلف، وصوت شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وهذا قٌلٌّ من كُثْر وغيض ٌ من فيض، يا أيها الأزهر الشامخ الذي طوى القرون والأعصُرا، ووقف شوقي أمير الشعراء ينشد فيها شعرًا يحفظه طلاب العلم ومحبي هذه المؤسسة في كل مكان، وتغنى الشعراء بجدران الأزهر ومبانيه، حتى قال شاعر الأزهر الدكتور علاء جانب: من سره فخر بغيرك إنني * حتى بجدران المباني أفخر.
وأكد رئيس جامعة الأزهر بكلمته أنَّ الأزهر يمضي مع الزمان يقهر الجهل والظلم وتتحطم على جدرانه أطماع الحاقدين والحاسدين والمرجفين، ويقيض له الله جل جلاله في كل عصر من يقوم بشرف خدمته والنهوض به، من شيوخه العظماء وأئمته الأعلام وأعلامه النبلاء، الذين قيضهم الله تعالى للأزهر في زماننا، واذكر الشيوخ الأجلاء: المراغي والشناوي ومصطفى عبد الرازق وعبد المجيد سليم وإبراهيم حُمْرُوش ومحمد الخضر حسين وعبد الرحمن تاج ومحمود شلتوت وعبد الحليم محمود وجاد الحق ومحمد سيد طنطاوي حتى تَسَلَّمَ الرايةَ الإمامُ الأكبرُ الدكتور أحمد الطيب شيخُ الأزهر الذي وهب حياته للأزهر الشريف وقدم له من المفاخر والمآثر ما يصعب حصره.
وأوضح أن الإمام الطيب أحيا هيئة كبار العلماء وشهد الجامع الأزهر في عهده أكبر عملية ترميم في تاريخه، وأعاد الحياة إلى أروقته فانتشرت في ساحات الجامع الأزهر بل جعل الأروقة في كل محافظات مصر، واتسع انتشار المعاهد الأزهرية وكليات جامعة الأزهر فبلغ عدد المعاهد أكثر من أحد عشر ألف معهد، وبلغ عدد الكليات الأزهرية تسعين كلية وثمانية عشر معهدا ملحقا بها، كما أنشأ فضيلته عددا من المراكز المهمة داخل الأزهر مثل مركز الأزهر للرصد والفتوى الإلكترونية والترجمة، وأكاديمية الأزهر العالمية لتأهيل وتدريب الأئمة والدعاة والوعاظ والباحثين وأمناء الفتوى، كما أسس بيت العائلة المصري لتوثيق روابط الأخوة الوطنية، وأنشأ بيت الزكاة والصدقات المصري لمساعدة الفقراء، وأنشأ لجنة المصالحات العليا لصيانة الأنفس وحقن الدماء، وأسس مجلس حكماء المسلمين من أجل السلام العالمي والحوار والتسامح، ووقع وثيقة الأخوة الإنسانية مع بابا الفاتيكان، وأرسل كثيرا من القوافل الإغاثية والطبية داخل مصر وخارجها، ولا يزال نهر العطاء والخير على يديه جاريا.
وأشار رئيس الجامعة إلى أن الأزهر درج منذ نشأته على أن يبيح للطالب أن يختار أستاذه، وأن يتيح لكل شيخ الطريقة التي يختارها للتدريس فمنهم من يقرأ لطلابه ومنهم من يُقْرَأُ عليه ويرى أن الشيخ يُقْرَأُ عليه ولا يَقْرَأ، ومنهم من يختصر ومنهم من يطيل؛ ولذلك قالوا: “لكل شيخ طريقة”؛ حتى أُخِذَتْ هذه المقولة من هذه الحرية التي كان عليها التدريس في الأزهر الشريف، كما أُخِذَ لقب “المعيد ” من طريقة التدريس في الأزهر الشريف، وهو الذي يختاره الشيخ ليعيد للطلاب الدرس الذي شرحه الشيخ، ثم انتقل هذا اللقب إلى جامعات العالم، ومن محاسن الأقدار أن احتفال الأزهر اليوم بذكرى تأسيسه في السابع من رمضان تتواكب مع الاحتفال بذكر تأسيس جامعة الأزهر حيث تم افتتاح كليات أصول الدين والشريعة والقانون واللغة العربية في مثل هذا اليوم 29 مارس سنة 1933م، وهذا التوافق في الاحتفال بذكرى تأسيس الجامع الأزهر والجامعة الأزهرية في هذا اليوم من النوادر التي حدثت في تاريخنا المعاصر.
وكان المجلس الأعلى للأزهر قد قرر في مايو 2018 برئاسة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، اعتبار مناسبة افتتاح الجامع الأزهر في السابع من رمضان عام 361هـ يومًا سنويًّا للاحتفال بذكرى تأسيس الجامع الأزهر.
ونظم الأزهر هذا الاحتفال اليوم بحضور الدكتور محمد الضويني، وكيل الأزهر، والدكتور سلامة داود، رئيس جامعة الأزهر، والدكتور عباس شومان، عضو مجمع البحوث الإسلامية، ونواب رئيس جامعة الأزهر، والدكتور عبد المنعم فؤاد، المشرف العام على الأنشطة العلمية بالرواق الأزهري، والدكتور إسماعيل الحداد، الأمين العام للمجلس الأعلى للأزهر، والدكتور أتى خضر، رئيس قطاع مكتب شيخ الأزهر، ولفيف من علماء وقيادات الأزهر الشريف.